كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني- أن يكون المراد إنا مؤخروالعذاب عنكم قليلًا بعد انعقاد أسبابه، ووصو له إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم. كقوله تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا امَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]. ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم. بل كانوا قد انعقد سببه عليهم، ولا يلزم أيضًا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى، إخبارًا عن شعيب عليه السلام، أنه قال لقومه حين قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ امَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أولتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قال أَولوكُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 88- 89]. وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم. وقال قتادة: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} إلى عذاب الله.
وقوله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} فسرّ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر. وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما، من رواية العوفي عنه. وعن أبي ابن كعب رضي الله عنه، وجماعة عنه، وهو محتمل. والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضًا.
قال ابن جرير: حدثني يعقوب. حدثنا ابن علية. حدثنا خالد الحذاء عن عِكْرِمَة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر. وأنا أقول هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عنه. وبه يقول الحسن البصري، وعكرمة في أصح الروايتين عنه. والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
فصل:
وممن رجح الوجه الأول، وهو أن المراد بالدخان يوم المجاعة والشدة مجازًا، بذكر المسّبب وإرادة السبب. أوبالاستعارة، العلامة أبو السعود حيث قال: والأول هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعًا. فإن قوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} الخ، ردّ لكلامهم، واستدعائهم الكشف، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان، المنبئ عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية، أي: كيف يتذكرون؟ أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم؟: {وَقَدْ جَاءَهُمْ رسول مُبِينٌ} أي: والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر، وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم منه في إيجابها. حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، وبيّن لهم مناهج الحق، بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، تخرّ لها صم الجبال.
{ثُمَّ تَولوا عَنْهُ} عن ذلك الرسول وهو هو، ريثما يشاهدون منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه، ولم يقتنعوا بالتو لي: {وَقالوا} في حقه: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} أي: قالوا تارة: يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف. وأخرى مجنون، أو يقول بعضهم كذا واخرون كذا. فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟ وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضعف، وإذا شبع طغى.
وقوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوالْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} جواب من جهته تعالى عن قولهم: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} بطريق الالتفات، لمزيد التوبيخ والتهديد، وما بينهما اعتراض. أي: إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفًا قليلًا، أوزمانًا قليلًا. إنكم تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتو، والإصرار على الكفر، وتنسون هذه الحالة، وفائدة التقييد بقوله: {قَلِيلًا} الدلالة على زيادة خبثهم؛ لأنهم إذا عادوا قبل تمام الأنكشاف، كانوا بعده أسرع إلى العود. وصيغة الفاعل في الفعلين، للدلالة على تحققهما لا محالة، ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله تعالى، بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتو والعناد. انتهى ما قاله أبو السعود بزيادة.
فصل:
وأما الوجه الثالث في الآية، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا جعفر بن مسافر. حدثنا يحيى بن حسان. حدثنا ابن مهيعة. حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قال: كان يوم فتح مكة. قال ابن كثير: وهذا القول غيب جدًّا. بل منكر. انتهى.
أي لأنه لم يرومرفوعًا ولا موقوفًا على ابن عباس، ترجمان القرآن، أو غيره من الصحب، إلا أن عدم كونه مأثورًا لا ينافي احتمال لفظ الآية له، وصدقها عليه، لاسيما، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} مما هو وعد بظهوره عليهم، وكان ذلك يوم الفتح. وحينئذ، فمعنى قوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوالْعَذَابِ} أي: ما ينزل بهم يومئذ، برفع القتل والأسر عنهم. ومعنى: {عَائِدُونَ} أي: إلى لقاء الله ومجازاته.
فصل:
يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة، أن هذه الآية من الاي اللاتي أخذت من الصحب، عليهم الرضوان، اهتمامًا في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها. حتى كان ابن مسعود مصرًا على وجه، وعلي وابن عباس وحذيفة على وجه آخر. على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية. وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار. وسبب الاختلاف هو إيجاز الأسلوب الكريم، وإيثاره من الألفاظ أرقها، وأوجزها. مما يصدق لبلاغته حقيقة تارة ومجازًا أخرى. هذا أولا.
وثانيًا، لما كان كثير من الأحاديث المروية تتشابه مع الآيات، كان ذلك مما يقرب بينهما، ويدعوا إلى اتحاد المراد منهما. لما تقرر من شرح السنة للكتاب، وهذا ما درج عليه المحدثون قاطبة. فترى أحدهم إذا رأى في خبر ما يشير إلى آية، قطع بأنه تفسيرها ووقف عنده ولم يتعده. وأما من فتح للتدبر بابًا، ومهد للنظر مجالًا، وأرى أن الأثر قد يكون من محمولات الآية وما صدقاتها، وأنها أعم وأشمل، أوإن حمل الخبر عليها اشتباه أفضى إليه التشابه. فذاك وسّع للسالك المسالك، وفتح للمريد المدارك، ورقاه من حظيره النقل إلى فضاء العقل. ولكلٍّ وجهة.
إذا علمت ذلك، رأيت أن من فسر هذه الآية بالمجاعة التي حصلت لقريش، أمكنه تطبيق الآية عليها مجازًا في بعض مفرداتها، وحقيقة في بقيتها وفي وقوع مصداقها، في رأيه. ومن فسرها بالدخان المنتظر، المروي من أشراط الساعة، وقف مع المروي ورأى أنه تفسيرها؛ لأن الأصل التوافق والحمل على المعهود؛ لأنه الأقرب خطورًا والأسبق حضورًا، ومن فسرها بالظهور عليهم يوم الفتح، رأى أنها من بليغ المجاوز وبديع الكناية في ذلك، وأن الوعد بالارتقاب. كثر أشباهه ونظائره في غير ما آية، مرادًا به الفتح. كاية: {وَيَقولونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ ولا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [السجدة: 28- 30].
فهذا وأمثاله يبين ماخذ الأئمة، ومداركهم في التأويل. وبه يعلم أن أطراف المدارك قد تتجاذب اللفظ فتستوقف الرأي عن التشيع لمدرك دون آخر. ما لم يكن ثمة ما يرشح أحدها وقد يظن الواقف على كلام الرازي المتقدم، واحتجاجه للوجه الثاني بما أطال به، أن لا منتدح، بعد، عنه. مع أن للذاهب إلى غيره أن يجيب عن احتجاجه بما أسلفنا من صحة المجاز. بل وقوّته هنا؛ لأن المقام مقام إنذار، وإيعاد، والذوق أكبر حاكم وإليه مرد البلاغة. ولا يلزم المتأول نكرانه للدخان المنتظر كما قد يتوهم. بل يتعرف بأنه آية اتية يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وينقلب هذا النظام إلى نشأة ثانية، وأنه لا يلزم من الاشتراك اللفظي اتحاد المتلو والمروي.
وبالجملة، فاللفظ الكريم يتناول المعاني الثلاثة. وسببه تحقق مصداق الجميع. وأما تعيين واحد منها للمراد، فصعب جدًّا فيما أراه، لاسيما ولم يتفق الصحب على رأي فيها. هذا ما نقوله الأن. والله العلم.
وقوله تعالى: {ولقد فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي: ابتلينا، قبل هؤلاء المشركين، قوم فرعون، بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا. فاختاروا الكفر على الإيمان: {وَجَاءهُمْ رسول كَرِيمٌ} أي: على الله والمؤمنين، أو في نفسه. فعلى الأول كريم بمعنى مكرم أي: معظَّم. وعلى الثاني، من الكرم بمعنى الاتصاف بالخصال الحميدة، حسبًا ونسبًا.
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} أي: أرسلوا معي بني إسرائيل، لأسير بهم إلى بلادنا الأولى، وأطلقوهم من أسركم وحبسكم؛ فإنهم قوم أحرار، أبوا- للضيم- هذه الديار: {إِنِّي لَكُمْ رسول أَمِينٌ} أي: على وحيه ورسالته، التي حمّلنيها إليكم؛ لأنذركم بأسه إن عصيتم.
{وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} أي: بإنكار ربوبيته، ودعوى الربوبية لأنفسكم، وتكذيب رسوله، وغضب عباده: {إِنِّي آتيكم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي: حجة واضحة على ربوبية الله، ونفي ربوبيتكم، وعلى رسالتي، وعلى أن بني إسرائيل عباده الخاصة.
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} أي: اعتصمت به من رجمكم؛ يعني القتل، فعصمني، فلا ينالني منك مكروه، مع أنه لا يعصم من افترى عليه، وقصد بهذه الجملة، إظهار مزيد شجاعته وثباته في موقف تضطراب فيه الأفئدة، وتزلّ الأقدام، خوفًا ورعبًا، وما ذاك إلا لإيوائه إلى عصمة الله وتأييده.
{وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} أي: فكونوا بمعزل عني. فلست بموالٍ منكم أحدًا.
{فَدَعَا رَبَّهُ} أي: لما تابوا عن إجابته: {أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} أي: مشركون مفسدون.
{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} أي: فأجاب دعاءه، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلًا: {إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} أي: إن فرعون، وقومه من القبط متبعوكم، إذا شخصتم عن بلدهم، وأرضهم ليرجعوكم.
{وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهوا} أي: فإذا قطعت البحر أنت وأصحابك، فاتركه ساكنًا على حاله التي كان عليها حين دخلته، ولا تضربه بعصاك ليدخله القبط فيغرقوا: {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا} أي: بعد هلاكهم بالغرق: {مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي: بساتين وعيون يسقى منها، ويتنعم بالنظر فيها، هذا في التفكة والتنزه.
{وَزُرُوعٍ} أي: قائمة مزارعهم للقوت: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي: محافل مزينة، ومنازل مزخرفة.
{وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} أي: متنعمين من نساء، وأموال، وحشم، وما لا يحصى من المشتهيات.
{كَذَلِكَ} أي: أخرجناهم مثل هذا الآخراج. فالكاف، أو الجار والمجرور صفة مصدر مفهو م من الترك. أوهوخبر محذوف؛ أي: الأمر كذلك. والمراد به التأكيد والتقرير.
{وأورثناها قَوْمًا آخرين} يعني من خلفهم بعد مهلكهم.
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ} قال الزمخشري: إذا مات رجل خطير، قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس. قال جرير:
تَبْكِيْ عَلَيْكَ نُجُوْمُ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا

وقالت الخارجية:
أَيَاْ شَجَرَ الْخَاْبُوْرِ مَاْ لَكَ مُوْرِقًا ** كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَىْ ابْنِ طَرِيْفِ

وذلك على سبيل التمثيل والتخييل. مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه، من بكاء مصلى المؤمن، واثاره في الأرض، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه في السماء: تمثيل. ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ} فيه تهكم بهم وبحالهم، المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض، وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين. يعني: فما بكى عليهم أهل السماء، وأهل الأرض: {وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} أي: مؤخّرين بالعقوبة. بل عجلوا بها، زيادة سخط عليهم.
{ولقد نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} يعني استعباد فرعون، وقتله أبناءهم.
{مِن فِرْعَوْنَ} بدل من العذاب، على حذف مضاف، أوجعله عذابًا مبالغةً لإفراطه في التعذيب، أو حال من المهين، بمعنى واقعًا من جهته: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا} أي: متكبرًا على الناس: {مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} أي: المتجاوزين الحدّ، في العتو والشر.
{ولقد اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: فضلناهم لأجل علمٍ معهم، على عالمي زمانهم. أو عالمين بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويؤثروا.
{وَآتيناهم} أي: زيادة على اختبارهم، وتفضيلهم: {مِّنَ الآيات} أي: المعجزات والكرامات: {مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ} أي: نعمة ظاهرة؛ لأنهم حجة واضحة على أعدائهم.
{إِنَّ هَؤُلَاء} أي: مشركي قريش: {لَيَقولونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأولى} أي: المتعقبة للحياة، كأنهم أرادوا إلا موتتنا هذه. وليس القصد إلى إثبات ثانية. قال الإسنوي في (التمهيد): الأول في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان، وقد لا يكون. كما تقول: هذا أول ما اكتسبته. فقد تكتسب بعده شيئًا، وقد لا تكتسب. كذا ذكره جماعة، منهم الواحدي في تفسيره، والزجاج. ومن فروع المسألة، ما لوقال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرًا فأنت طالق، تطلق إذا ولدته، وإن لم تلد غيره، بالاتفاق. قال أبو علي: اتفقوا على أن ليس من شرط كونه أولا، أن يكون بعده آخر. وإنما الشرط أن لا تقدم عليه غيره. انتهى.
وما ذكر أظهر مما للزمخشري هنا: {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} أي: مبعوثين.
{فَأْتُوا بِآبائنا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: في بعثنا بعد بلائنا في قبورنا. قال ابن كثير: وهذه حجة باطلة، وشبهة فاسدة. فإن المعاد إنما هو يوم القيامة، لا في دار الدنيا. بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها، يعيد الله العالمين خلقًا جديدًا، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودًا، ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يردّ، كما حلّ بأشباههم من المشركين، بقوله سبحانه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [37].
{أَهُمْ خَيْرٌ} أي: في القوة والمنعة: {أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} أي: أهلكناهم بجرمهم، وهو كفرهم وفسادهم. وهم ما هم. فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ. أهلكهم الله عز وجل وفرقهم في البلاد شذر مذر. كما تقدم في سورة سبأ. قال ابن كثير: وقد كانوا عربًا من قحطان. كما أن هؤلاء عرب من عدنان، وكانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعًا. كما يقال: كسرى، لمن ملك الفرس. وقيصر، لمن ملك الروم. وفرعون، لمن ملك مصر كافرًا. والنجاشي، لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس.
لكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن، وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه، وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته، وبلاده، وكثرت رعاياه، وهو الذي مصّر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية، وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه، وقاتلوه بالنهار، وجعلوا يقْرُونَه بالليل. فاستحيا منه وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود، كانا قد نصحاه، وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة. فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان. فرجع عنها، وأخذهما معه إلى بلاد اليمن. فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة. فنهياه عن ذلك أيضًا. وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيمًا على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها، وكساها المُلاء والوصائل والحبر. ثم كرّ راجعًا إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه. وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام. فتهود معه عامة أهل اليمن.
وقد ذكر القصة بطو لها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه (السيرة). وترجمة الحافظ ابن عساكر في (تاريخه) ترجمة حافلة، وذكر أنه ملك دمشق. وساق ما روي في النهي عن سبه ولعنه. قال ابن كثير: وكأنه، والله أعلم. كان كافرًا ثم أسلم، وتابع دين الكليم على يدي من كان أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه المُلاء، والوصائل من الحرير والحبر، ونحر عنده ستة الاف بدنة، وعظمه وأكرمه، ثم عاد إلى اليمن، وقد ساق قصته بطو لها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطو لة مبسوطة، عن أبي بن كعب، وعبد الله بن سلام، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، وكعب الأحبار، وإليه المرجع في ذلك كله، وإلى عبد الله بن سلام أيضًا، وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهبه بن منبه، ومحمد بن إسحاق في (السيرة) كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات، ترجمة تبع هذا، بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل؛ فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة الثيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى، كما ذكره في سورة سبأ.